سورة مريم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {واذكر في الكتاب إِدريس} وهو سبط شيث، وجَدّ أبي نوح، فإنه نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس عليه السلام، واشتقاقه من الدرس؛ لكثرة دراسته لما أوحي إليه، وكثرة ذكره لله تعالى.
رُوِيَ أنه كان خياطًا فكان لا يدخله الإبرة ولا يخرجها إلا بذكر الله. ورُوي أنه جاء إليه الشيطان يفتنه بفستق، فقال له: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في هذه الفُسْتقة؟ فقال له عليه السلام: «الله قادر على أن يدخل الدنيا كلها في سم هذه الإبرة، ونخس عينه»، ذكره السنوسي في شرح مقرئه. قال ابن وهب: إنه دعا قومه إلى لا إله إلا الله، فامتنعوا فهلكوا. وفي حديث أبي ذر: أنه رسول، وجمع بينه وبين حديث الشفاعة، وقولهم لنوح: إنك أول رسول، بأن تكون رسالته لقومه خاصة، كهود وصالح، وكذا آدم وشيث، فإنه أرسل لبنيه لتعليم الشرائع والإيمان، ولم يكونوا كفارًا، وخلفه في ذلك شيث، قال المحشي الفاسي: والأظهر عندي في نوح أنه أول رسول من أهل العزم، لا مطلقًا.
قال ابن عطية: والأشهر أن إدريس عليه السلام لم يرسل، وإنما هو نبي فقط، وذهب إلى ذلك ابن بطال، ليسلم من المعارضة، وهي مدفوعة بما ذكرنا. اهـ. فالمشهور أن إدريس رسول إلى قومه. رُوي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة، وأنه أول من خط بالقلم، ونظر في علم النجوم والحساب، وخاط الثياب. قيل: وهو أول نبي بُعث إلى أهل الأرض.
قال تعالى في وصفه: {إِنه كان صدِّيقًا نبيًّا}: خبران لكان، والثاني مخصص للأول؛ إذ ليس كل صديق نبي. {ورفعناه مكانًا عليًّا}، هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى. وقيل: علو الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا، كما قال تعالى في حق نبينا: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشّرح: 4]، وقيل: الجنة، وقيل: السماء الرابعة، وهو الصحيح.
رُوِيَ عن كعب وغيره في سبب رفعه أنه مشى ذات يوم في حاجته، فأصابه وهج الشمس وحرها، فقال: يا رب أنا مشيت يومًا، فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهمَّ خَفِّفْ عنه من ثقلها، واحمل عنه حرها، فلما أصبح الملَك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف، فقال: يا رب كلفتني بحمل الشمس، فما الذي قضيت فيه؟ فقال: إن عبدي إدريس سألني أن أُخفف عنك حملها وحرّها فأجبته، قال: يا رب اجعل بيني وبينه خُلَّة، فأذن له، حتى أتى إدريس، فقال له إدريس: أخبرت أنك أكرم الملائكة عند مَلَك الموت، فاشفع لي ليؤخر أجلي، لأزداد شكرًا وعبادة، فقال له الملك: لا يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها، فقال: قد علمت ذلك، ولكنه أطيب لنفسي، قال: نعم، ثم حمله ملك الشمس على جناحه فرفعه إلى السماء. رُوي أنه مات هناك وردت إليه روحه بعد ساعة، فهو في السماء الرابعة حي. وهذه قصص الله أعلم بصحتها. وبالله التوفيق.
الإشارة: ارتفاع المكان والشأن يكون على قدر صفاء الجنان، والإقبال على الكريم المنان، فبقدر التوجه والإقبال يكون الارتفاع والوصال.
بقدر الكد تكسب المعالي *** وَمَنَ رَامَ العُلا سَهِرَ الليالي
أتبغي العز ثم تنام ليلاً *** يَغُوصُ البحر منَ طلب اللآلي
قال بعضهم: من عامل الله على بساط الأنس: رفع، لا محالة، إلى حضرة القدس. وبالله التوفيق.


قلت: {أولئك}: مبتدأ، و{الذين}: خبره، أو {الذين}: صفته، و{إذا تتلى}: خبره. والإشارة إلى المذكورين في السورة، وما فيه من معنى البُعد؛ للإشعار بعلو رتبتهم وبُعد منزلتهم في الفضل، و{من النبيين}: بيان للموصول، و{من ذرية}: بدل منه بإعادة الجار، و{سُجدًا وبُكيًّا}: حالان من الواو، و{بكيًّا}: جمع باك، كمساجد وسجود، وأصله: بكوى، فاجتمع الواو والياء، وسُبق إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وحركت الكاف بالكسر المجانس للياء.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أولئك} المذكورون في السورة الكريمة هم {الذين أنعم الله عليهم} بفنون النعم الدينية والدنيوية، {من النبيين من ذرية آدم}، وهو إدريس عليه السلام ونوح، {ومن حملنا مع نوحٍ} أي: ومن ذرية من حملناهم في السفينة، وهو إبراهيم؛ لأنه من ذرية سام بن نوح، {ومن ذرية إبراهيم}، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقوله: {وإِسرائيلَ} أي: ومن ذرية إسرائيل، وهو يعقوب، وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية. {وممن هدينا} أي: ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم إلى النبوة من غير هؤلاء.
{إِذا تُتلى عليهم آياتُ الرحمن خَرُّوا سُجدًا وبُكيًّا}، هذا استئناف؛ لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له، مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب، وكمال النفس والزلفى من الله عزّ وجلّ، أي: إذا تتلى عليهم، آيات الرحمن، إما عند نزولها عليهم، أو بسماعها من غيرهم، لحديث: «أحب أن أسمعه من غيري» ثم بكى صلى الله عليه وسلم عند قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النِّساء: 41] فكان الأنبياء عليهم السلام مثله، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا ساجدين وباكين. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتْلُوا القُرْآنَ وابْكُوا، فَإِنْ لمْ تَبْكُوا فَتَباكَوْا» وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم، فسجد فيها، فقال: (هذا السجود، فأين البكاء)؟
قال بعضهم: ينبغي أن يدعو الساجد في سجوده بما يليق بآيتها، فهاهنا يقول: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك. وفي الإسراء يقول: اللهم اجعلني من الخاضعين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك، وهكذا. والذي ورد في الخبر: يقول: «سَجَدَ وَجْهِي للذي خَلَقَه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وَبَصَرَه، بحوله وقُوته، اللهم اكتب لي بها أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام». والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد أثنى الله تعالى على هؤلاء السادات المُنعَم عليهم بكونهم إذا سمعوا كلام الحبيب خضعوا ورقَّت قلوبهم، وهو أول درجة المحبة، وفوقه الفرح بكلام الحبيب من مكان قريب، وفوقه الفرح بشهود المتكلم، وهنا ينقطع البكاء؛ لدخول صاحب هذا المقام جنة المعارف، وليس في الجنة بكاء.
وأيضًا: من شأن القلب في أول أمره الرطوبة، يتأثر بالواردات والأحوال، فإذا استمر عليها اشتد وصلُب بحيث لا يؤثر فيه شيء من الواردات الإلهية. وفي هذا المعنى قال أبو بكر رضي الله عنه، حين رأى قومًا يبكون عند سماع القرآن: (كذلك كنا ثم قست القلوب)، فعبَّر عن تمكنه بالقسوة، تواضعًا واستتارًا، وإنما أثنى على هؤلاء السادات بهذه الخصلة؛ لأنها سُلّم لما فوقها. والله تعالى أعلم.


قلت: {جنات عدن}: بدل من الجنة، بدل بعض؛ لاشتمالها عليها، وما بينهما اعتراض، أو نصب على المدح. و{إلا سلامًا}: منقطع، أي: لكن يسمعون سلامًا، ويجوز اتصاله، على أن المراد بالسلام الدعاء بالسلامة، فإن أهل الجنة أغنياء عنه، فهو داخل في اللغو. و{بالغيب}: حال من عائد الموصول، أي: وعدها، أو من العباد، و{مأتِيًا}: أصله مأتوي، فأبدل وأدغم كما تقدم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فخَلَفَ من بعدهم} أي: جاء بعد أولئك الأكابر، {خَلْفٌ} أي: عقب سوء، يقال لعقب الخير {خَلَفٌ} بفتح اللام، ولعقب الشر خلْف بسكون اللام، أي: فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء، {أضاعوا الصلاة} أي: تركوها وأخروها عن وقتها، {واتبعوا الشهواتِ}؛ من شرب الخمر، واستحلال نكاح الأخت، من الأب، والانهماك في فنون المعاصي، وعن علي رضي الله عنه: هم من بَني المُشيد، وركب المنضود، ولبس المشهور. قلت: ولعل المنضود: السُرج المرصعة بالجواهر والذهب. وقال مجاهد: هذا عند اقتراب الساعة، وذهاب صالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقة. اهـ. {فسوف يلقون غيًّا}: شرًا، فكل شر عند العرب غيٌ، وكل خير رشاد. قال ابن عباس: الغيُّ: واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حرِّه، أُعد للزاني المصرِّ، ولشارب الخمر المدمن، ولأهل الرياء والعقوق والزور، ولمن أدخلت على زوجها ولدًا من غيره. اهـ.
{إِلا مَن تاب وآمن وعمل صالحًا}، هذا يدل على أن الآية في الكفار. {فأولئك} المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، {يدخلون الجنة} بموجب الوعد المحتوم، أو يُدخلهم الله الجنة، {ولا يُظلمون شيئًا}: لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئًا، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم، ولا ينقص أجورهم، إذا صححوا المعاملة مع ربهم.
{جنات عدنٍ} أي: إقامة، لإقامة داخلها فيها على الأبد، {التي وعد الرحمن عبادَه بالغيب} أي: ملتبسين بالغيب عنها لم يروها، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار، أو ملتبسة بالغيب، أي: غائبة عنهم غير حاضرة. والتعرض لعنوان الرحمانية؛ للإيذان بأن وعده وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى، {إِنه كان وعده مَأْتِيًّا}؛ يأتيه من وعُد به لا محالة، وقيل: هو مفعول بمعنى فاعل، أي: آتيًا لا محالة، وقيل: مأتيًا: منجزًا، من أتى إليه إحسانًا، أي: فعله.
{لا يسمعون فيها لغوًا} أي: فضول كلام لا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. وفيه تنبيه على أن اللغو ينبغي للعبد أن يجتنبه في هذه الدار ما أمكنه. وفي الحديث: «مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المرْءِ تَرَكُهُ ما لا يَعْنِيهِ» وهو عَامٌّ في الكلام وغيره. {إِلا سلامًا}، أي: لا يسمعون لغوًا، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم، أو تسليم بعضهم على بعض، {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًّا} أي: على قدرهما في الدنيا، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل، بل ضوء ونور أبدًا.
قال القرطبي: ليلهم إرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، أي: ونهارهم رفع الحجب وفتح الأبواب.
قال القشيري: الآية ضرب مثل لما عهد في الدنيا لأهل اليسار، والقصد: أنهم أغنياء مياسير في كل وقت. اهـ. وسيأتي عند قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} [الزّخرُف: 71] كيفية أرزاقهم.
قال تعالى: {تلك الجنة}: مبتدأ وخبر، جيء بهذه الجملة؛ لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد؛ للإيذان ببُعد منزلتها وعلو رتبتها، أي: تلك الجنة التي وُصفت بتلك الأوصاف العظيمة هي {التي نُورث} أي: نورثها {مِنْ عبادنا من كان تقيًّا} لله بطاعته واجتناب معاصيه، أي: نُديمها عليهم بتقواهم، ونمتعهم بها، كما يبقى عند الوارث مال مورثه يتمتع به، والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ؛ من حيث إنها لا يعقبها فسخ ولا استرجاع ولا إبطال. وقيل: يرث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار، لو آمنوا وأطاعوا، زيادة في كرامتهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف...} الآية تنسحب على من كان أسلافه صالحين، فتنكب عن طريقهم، فضيّع الدين، وتكبر على ضعفاء المسلمين، واتبع الحظوظ والشهوات، وتعاطى الأمور العلويات، فإن ضم إلى ذلك الافتخار بأسلافه، أو بالجاه والمال، كان أغرق في الغي والضلال، يصدق عليه قول القائل:
إن عاهدوك على الإحسان أو وعدُوا *** خانوا العهود ولكن بعد ما حلفوا
بل يفخرون بأجداد لهم سلفت *** نِعم الجدود ولكن بئس ما خلَّفوا
إلا من تاب ورجع إلى ما كان عليه أسلافه، من العلم النافع والعمل الصالح، والتواضع للصالح والطالح، فيرافقهم في جنة الزخارف أو المعارف، التي وعد الرحمن عباده المخصوصين بالغيب، ثم صارت عندهم شهادة، إنه كان وعده مأتيًا، لا يسمعون فيها لغوًا؛ لأن الحضرة مقدسة عن اللغو، {إلا سلامًا}؛ لسلامة صدورهم، ولهم رزقهم فيها من العلوم والأسرار والمواهب، في كل ساعة وحين، لا يرث هذه الجنة إلا من اتقى ما سوى الله، وانقطع بكليته إلى مولاه. وبالله التوفيق.
ولما أبطأ الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل ما يَمنعُكَ أن تزورنَا أكثرَ مما تَزورنا؟».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8